الاستماعإلىاللغةالمكتوبة
17/09/2025
مقدّمةتُعدّ مهارة الاستماع من أهم المهارات اللغويّة في مرحلة الطفولة المبكرة، فهي أولى التي يكتسبها الطفل منذ ولادته، وتشكل أساسًا لتعلّم اللغة، تطوير المفردات، والنطق السليم. يُشير بحث وزارة التعليم الأمريكية إلى أن الاستماع الجيد يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتطوّر مهارات القراءة والكتابة في المراحل اللاحقة. كما تسهم هذه المهارة في تعزيز القدرات الإدراكية مثل التركيز، الانتباه، والتميييز بين الأصوات، الإيقاع والنبر، مما يدعم تطوّر التفكير والذاكرة السمعيّة. الطفل الذي يتمتع بمهارة الاستماع يكون أكثر قدرة على فهم التعليمات، التفاعل داخل الصف، والمشاركة في الحوارات، وهو أيضاً أكثر استعدادًا لتعلّم مهارات التحدّث بشكل متوازن، إذ يتعلّم الإصغاء، انتظار دوره، والرد ّ بلغة مناسبة. علاوة على ذلك، فإن الاستماع الواعي يعزّز العلاقات الاجتماعيّة وينمّي التعاطف والاحترام لدى الطفل.
وقد أكّدت أبحاث عدّة، كدراسة اللجنة الوطنية لمحو الأميّة المبكرة(NELP)، أن ّ مهارات اللغة الشفويّة، وبضمنها الاستماع، تُعدّ مؤشراً قويًّا على النجاح القرائي لاحقَا. من جهة أخرى، أشار العالم فيغوتسكي إلى أهمية التفاعل اللغوي مع البالغين والأقران، والاستماع كعنصر أساسي في النمو المعرفي واللغوي، بينما يُبرز مركز هارفارد لتنمية الطفل كيف يؤثّر التعرّض للغة المنطوقة في السنوات الأولى على بنية الدماغ والمهارات المستقبلية.
في هذا السياق، للأهل دور حاسم في تنمية مهارة الاستماع لدى أطفالهم من خلال ممارسات يوميّة بسيطة ولكن فعّالة، كأن يقرأوا لهم القصص بصوت عالٍ، يشجعوهم على الإصغاء والتفكير بطرح أسئلة بعد القراءة، أو يشاركوهم في ألعاب تعتمد على التمييز السمعي مثل "غمّض عينيك وخمّن الصوت" أو "سيمون يقول". كما يُستحسن أن يُنمّي لدى الطفل احترام الحوار من خلال النظر في عيون المتحدّث، عدم مقاطعته، والانتظار حتى نهاية الجملة. ويمكن أيضًا استخدام القصص الصوتيّة أو البودكاست العربي كأداة فعّالة، إلى جانب الحدّ من الضوضاء والمشتتات كالتلفاز خلال أوقات الحديث. كل هذه الممارسات، وإن بدت بسيطة، فإنها تؤسس لقدرة لغوية واجتماعية متينة ترافق الطفل في مسيرته التعليمية والحياتية.
كيف يمكن للأهل أن يساهموا في تنمية مهارة الاستماع لدى أطفالهم؟
1. القراءة اليوميّة بصوت عالٍ - استخدموا نبرة تمثيليّة تعبّر عن المشاعر وتسلسل الأحداث، ولا تبسّطوا اللغة أو تستبدلوا الكلمات الصعبة، بل فسّروها للطفل عند الحاجة
2. تكرار قراءة القصّة أكثر من مرّة - التكرار يساعد الطفل على تملّك اللغة المكتوبة، وفهم بنية الجمل والمفردات
3. كتب غنيّة لغويًّا - فضّلوا الكتب التي تحتوي على جمل مترابطة ومبنًى واضح، ويُستحسن استخدام كتب مصوّرة من مصادر موثوقة مثل مكتبة الفانوس، ودور نشر معتمدة
4. الحوار مع الطفل حول القصّة - ناقشوا أحداث القصة ومفرداتها، واسألوا: "ماذا قصد الكاتب؟"
5. الاستماع لمحتوى صوتيّ أو قصص سمعيّة - استخدموا بودكاست أو تطبيقات للقصص العربيّة لتوسيع مهارات الإصغاء
6. اللعب بألعاب تعتمد على الاستماع والتمييز السمعيّ -أمثلة: "غمّض عينيك وخمّن الصوت"، "أنا أقول – سمعان يقول" (Simon Says).
7. تعزيز آداب الحوار والإصغاء - علّموا الطفل أن ينظر في عيني المتحدث، لا يقاطع، وينتظر حتّى نهاية الجملة قبل الرد.
8. نموذج الحوار العائليّ الهادئ - لا تقاطعوا الطفل عندما يتحدّث، لتعلّموه أهمّيّة الإصغاء المتبادل والاحترام في الحديث.
9. تقليل المشتّتات والضوضاء - أطفئوا التلفاز أو قلّلوا الأصوات الخلفيّة خلال أوقات الحوار أو قراءة القصص.
لماذا مهمّ الاستماع إلى لغة الكتب؟
تختلف اللغة المكتوبة في تركيبها ومفرداتها عن اللغة المحكيّة اليوميّة.
عندما يُقرأ للطفل من كتاب ويستمع لقراءته، فإنّه ينكشف على:
• تراكيب نحويّة مركّبة أكثر
• مفردات غنيّة وغير مألوفة في الحديث اليومي
• أفكار مجرّدة وتسلسلات سرديّة منظّمة
• نبرة لغويّة عالية وغنيّة أو أدبيّة تمهّد لمهارات الكتابة وفهم المقروء
الفرق بين اللغة المحكيّة واللغة المكتوبة (لغة الكتاب)
المعيار اللغة المحكيّة اللغة المكتوبة
التركيب النحويّ جُمَل قصيرة، متقطّعة جُمل مترابطة، متسلسلة
المفردات محدودة، يوميّة غنيّة، متنوّعة، دقيقة
الوظيفة تواصل اجتماعيّ يوميّ نقل المعرفة، التعبير المجازيّ، السرد
إجمال: عندما نقرأ لأطفالنا، لا نمنحهم كلمات فقط، بل نمنحهم أدوات للتفكير ، للتخيّل، وللتعبير عن ذواتهم بلغة أغنى وأعمق مّما يسمعونه في محيطهم اليومي.
الاستماع إلى اللغة المكتوبة، مهارة أساسيّة لنجاح الطفل في المدرسة والحياة
مع اقتراب الطفل من المرحلة الابتدائية، تتّجه الأنظار إلى المهارات الأساسيّة التي تمهّد له طريق النجاح المدرسيّ. ومن بين هذه المهارات، تبرز مهارة الاستماع بوصفها ركيزة لغويّة ومعرفيّة حاسمة. غير أنّ ما يغيب عن وعي كثير من الأهل هو أن الاستماع ليس مجرّد إنصات لأيّ كلام، بل هو تفاعل نوعيّ مع نوعٍ معيّن من اللغة، وتحديدًا "اللغة المكتوبة" التي تنبثق من الكتب، لا من الحديث اليوميّ العابر.
اللغة المكتوبة ليست امتدادًا للغة المحكيّة
اللغة التي يسمعها الطفل في محيطه العائلي أو الاجتماعي غالبًا ما تكون بسيطة، مباشرة، وتدور في نطاق السياق الملموس.
أمّا لغة الكتاب – أي اللغة التي تُقرأ بصوت عالٍ من النصوص القصصيّة والأدبيّة - فتتميّز بخصائص مختلفة تمامًا:
تراكيب نحوية أكثر تعقيدًا، مفردات أقل تكرارًا وأوسع نطاقًا، أفكار مجرّدة، وبنية سرديّة متسلسلة تتطلّب متابعة ذهنيّة وتأمّلًا.
هذه اللغة لا يكتسبها الطفل من الشارع أو من اللعب، بل من الاستماع المتكرّر والمنهجيّ للنصوص المكتوبة. وتشير الباحثتان ديكنسون وتابورز (Dickinson & Tabors, 2001) إلى أن الاستماع للغة المكتوبة يتيح للطفل الانخراط في لغة غير سياقيّة (decontextualized language)، مما يساعده على تطوير أدوات التفكير المجرّد، والتحليل، والتوقّع، والتعبير الرمزيّ".
الاستماع إلى القصص: مدرسة لغويّة وعقليّة
توصي الدراسات الحديثة، وعلى رأسها تقرير اللجنة القوميّة الأمريكيّة لمحو الأميّة المبكرة (Snow, Burns, & Griffin,1998) بضرورة كشف الطفل بانتظام للقراءة الجهريّة من الكبار، لما في ذلك من أثر مباشر في تطوير الوعي اللغويّ، وهو ما يعد ّ أحد أقوى مؤشّّرات النجاح المستقبليّ في القراءة والكتابة.
حين يستمع الطفل إلى قصّة تُقرأ عليه بصوت هادئ ومعبّر، يحدث ما يُشبه "التهيئة الدماغيّة" للتعلّم:
تتحفّز الذاكرة السمعيّة، يُثبّت المفردات الجديدة، يتعلّم قواعد اللغة بشكل ضمنيّ، ويتعرّف إلى أنماط السرد والتسلسل المنطقيّ للأحداث. كل ذلك يضع حجر الأساس للمهارات المدرسيّة: فهم التعليمات، تتبّع النصوص، تحليل الفكرة الرئيسيّة وكتابة فقرات مترابطة.
حين تُغني اللغة المكتوبة عالم الطفل
الطفل الذي اعتاد الاستماع إلى الكتب، يدخل الصفّ الأول وهو يمتلك رصيدًا لغويًّا ومعرفيًّا أوسع من غيره. وهذا ليس انطباعًا نظريًّا، بل نتيجة أكّدتها دراسة ميتا-تحليلية أجراها الباحثان مول وبَس(Mol & Bus, 2011)، أظهرت أنّ الأطفال الذين يُقرأ لهم بانتظام يملكون مخزونًا لغويٌَ أعلى، وقدرات إدراكيّة أفضل، وتفوّقًا ملحوظًا في المهارات القرائيّة اللاحقة.
أمّا الباحثة آن ّ سكاربرو (Scarborough & Dobrich, 1994) فقد قارنت بين أثر الحديث العائليّ العاديّ وبين أثر القراءة الجهريّة، فوجدت أن ّ القراءة تُحدِث تطوّرًا لغويًّا أعمق، خاصّة على مستوى المفردات وتركيب الجمل.
إنّنا إذًا لا نتحدّث عن فرق في "الكمّ"، بل في "الكيف": اللغة التي تأتي من القصّة تحمل بنية مختلفة، وتوسّع مدارك الطفل إلى ما وراء اللحظة الراهنة.
دور الأهل: المربيّ الأول للذهن واللغة
من هذا المنطلق، يصبح دور الأهل حاسمًا في تهيئة أبنائهم لمهارات الاستماع، لا من خلال التوجيهات أو التلقين، بل من خلال بناء برنامج يوميّ بسيط ليصبح نهجًا تمينًا: أن يقرأوا لأولادهم بصوت عالٍ.
القراءة للأبناء ليست ترفًا تربويًّا، بل استثمار طويل الأمد في بنية الدماغ والتفكير. وكلّ مرّة يُعاد فيها الكتاب نفسه، يتعمّق الفهم وتُعاد صياغة المفردات في الذهن، وتُبنى أنماط ذهنيّة تساعد الطفل على التعبير والربط والتحليل لاحقاً.
ومن الأفضل أن تكون الكتب المختارة غنيّة لغويًّا، مصوّرة، وتحوي قصصًا ذات تسلسل منطقيّ وأبعاد شعوريّة وفكريّة، بعيدًا عن اللغة الدارجة أو التبسيط المبالغ.
اللغة بوصفها جسرًا إلى الذات والعالم
إن ّ مهارة الاستماع للغة المكتوبة لا تخدم فقط الجانب المدرسيّ، بل تشكّل أساسا لتطوّر الطفل لاإنسانيّ والأخلاقيّ.
فالقصص تُعلّمه أن يصغي، أن يتعاطف، أن يفهم مشاعر الآخرين، وأن يتأمّل ذاته وتجربته في الحياة. بهذا المعنى، فإنّ الإصغاء للكتاب هو إصغاء إلى اللغة كحامل للمعنى والإنسانيّة، وليس فقط كوسيلة تعلّم.
خاتمة
في زمن تحاصر فيه الشاشات أذهان أطفالنا، وتقلّ فيه فرص الإصغاء العميق، تبدو القراءة الجهريّة والاستماع للغة المكتوبة كفعل مقاومة تربويّة، نعيد فيه الاعتبار للغة، وللإنصات، وللخيال. ولعلّ أجمل ما يمكن أن نقدّمه للطفل في بداية مشواره المدرسيّ هو أن نمنحه أذنًا تصغي، وقلبًا يقرأ، وعقلاً ينمو على صوت الحكاية.